الاثنين، 24 يناير 2011

الأصل .. طيب وأمين


كانت ليلة من ليالي الشتاء الباردة .. بينما كنت أسير متجها لمنزلي فقد كنت عند صديق لي اقضي عنده سهرة الخميس وعلي منعطف الطريق بجوار المسجد حيث يقبع بيت (عم ابراهيم ) وهو بيت متهالك متهاوي عفي عليه الزمن ببابه الخشبي العتيق ونافذته المستطيلة التي يصعب غلقها نتيجة لتمدد الخشب في الاوقات الباردة والتي يظهر من خلالها ضوء شاحب نحيل .

وترامي الي مسامعي صوت طفل يقول
: ( أنا فلاح قدير ) لفتت الكلمة انتباهي مما جعلني اقترب أكثر والطفل يتابع بحماس(أنا فلاح قدير .. أنا فلاح قدير) دفعني الفضول لأقترب أكثر وأكثر فاقتربت من النافذة ومن الفتحة التي ظهر منها الضوء رأيت ( الطيب) الابن الاكبر لعم ابراهيم وقد انهمك في القراءة وبجانبه أخيه الصغير( أمين) منبطحا علي بطنه والطيب يقول ( أنا فلاح قدير .. أزرع الحب الكثير) و أمين يردد نفس الجملة وعم ابراهيم وزوجته يتابعان في هدوء واستمتاع، والأخت الكبرى ( أصل) توزع فناجين الحليب بالزنجبيل فيصعد بخارها في الفضاء الشاحب مختلطاً برائحة الدفء والأمان.

كانت أنفاس الليل هادئة وكان ضوء القمر يشع في جدران البيوت المقابلة ولا شيء يحرك سكون الليل إلا صوت الطيب وصوت أمين وهو يتابعه في ضعف وكسل.وانسللت من مكاني، وراح الصوت الضعيف يتبعني: أنا فلاح قدير.. أنا فلاح.. أنا فـ .. وراح الصوت يتلاشى في سكون الليل.. ولكن الصوت أخذ يدوي في أذني ويكبر.. يكبر..
وتكبر صورة (عم إبراهيم ) العامل البسيط.الفقير الذي قضى حياته في القرية يعمل في البناء، ونقل الأخشاب، يأخذ أجره الضئيل من هذا، ومن ذاك ليعول هذه الأسرة البسيطة .

وراح يغرس بماء عرقه وكفاحه في هذا البيت الضئيل أسس العلم والمعرفة .. وظللت من وقت لأخر أمر على البيت الضئيل فيخيل إليّ أنه قصر.. ففيه من الدفء والطموح ما يجعله أكبر من ذلك وظللت ألاقي (عم إبراهيم ) في الشارع وطرقات القرية وهو يحمل حزمة الحطب فوق رأسه، أو هو يضع فأسه على كتفه فأشعر بهيبة وجلال لهذا الرجل الذي يجمع بين البساطة والعظمة.

ومرت الأيام وفرقت القرية أهلها .. وسافرت الي الخارج فترة طويلة وعدت الي القرية ومررت بالبيت فرأيته كما هو بل زاد ضآلة وشحوباً. وخدشت الأمطار والإهمال واجهته، إلا أن الباب لايزال كما هو، والنافذة لاتزال كما هي وتذكرت العائلة ورحت أسأل عنها بإلحاح وشغف.. فقيل لي إن :
( الطيب ) صار طبيباً، وإن ( أمين ) أستاذ في الجامعة، أما ( أصل) فأصبحت مديرة مدرسة
فامتلأ صدري بمزيج من الفرح والإجلال لذلك الأب المكافح العظيم.. وراح ذلك الصوت في تلك الليلة الباردة
المظلمة يتردد على سمعي :
أنا فلاح قدير.. أزرع الحب الكثير... أزرع الأمل الكبير.

بقلم .. د / ابراهيم أبو المجد